تقودنا تأويليات هيدغر الفينومينولوجية إلى محاولة فهم العمل الفني بالبحث والتساؤل عن ماهيته وأسلوب وجوده، إن البحث في ماهية الفن لن تكون إلا من خلال العمل الفني ذاته كظاهرة فينومينولوجية، وكمعطى واقعي، فالفن لا يكون ماثلا إلا في العمل الفني، ولهذا السبب سيتوجه هيدغر في تحليله لماهية الفن إلى أعمال فنية معينة (لوحة الحذاء لفان غوغ Van Gogh أو مثال المعبد اليوناني كعمل فني)، وبأسلوبه الفينومينولوجي سيدع العمل الفني ذاته يكشف عن نفسه.
شيئية العمل الفني
تُعد ((شيئية)) العمل الفني الجهة التي يراها هيدغر الأساس الأول الذي يمكن أن يحدد ماهية العمل الفني، فلا يمكن للفنان بأي حال من الأحوال إنجاز عمله بعيدا عن الشيئية، ذلك أنها تمثل العنصر المادي للعمل؛ فالخروج من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل يفترض أولا وجود المادة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا نجد أنفسنا في مقابل الأعمال الفنية أمام أشياء، ففي كل الأعمال الفنية هناك شيء مادي يختلف باختلاف النوع، فقد يكون الحجر المعطى المادي الذي يشكل بنية المعمار، أو اللون بالنسبة للرسم إلخ..،
يقول هيدغر في مؤلفه ((أصل العمل الفني)) ما نصه: "لكل الأعمال الفنية هذا المظهر الشيئي (...) إن التجربة الجمالية الاختصاصية لا تستطيع أن تغض الطرف عن الطابع الشيئي للعمل الفني، فالحجري في العمل الفني المعماري، والخشبي في العمل الفني المحفور، واللوني في اللوحة المرسومة، والصوتي في العمل الفني اللغوي، واللحني في العمل الفني النغمي، ستكون إذن بداية النظر إلى ماهية العمل الفني قائمة بالضرورة على ما يتضمنه من شيئية.
إلا أن ما يستبعده هيدغر في مسألة شيئية العمل الفني، هو اختزال العمل الفني في شيئيته فقط، فلا يمكن فهم العمل الفني ابتداء من طابعه الشيئي، ولكن من خلال وجوده فقط باعتباره شيئا تكون له القدرة على الإحالة إلى شيء ما آخر، ومن هنا يتجلى الجانب الرمزي للعمل الفني؛ وبهذا المعنى تكون الرؤية الهيدغرية قد تجاوزت كل ما تشير إليه الاستيتيقا (علم الجمال) من اعتبار شيئية العمل الفني السمة الأبرز، ومن هنا يرفض هيدغر كل جمالية تنظر إلى الموجود في سطحيته، بمعنى التماهي بين الشيء والعمل الفني، فطريقة وجود العمل الفني كشيء تختلف عن أسلوب وجود باقي الأشياء الأخرى.
ويمكن أن نلتمس الطابع الفينومينولوجي للرؤية الهيدغرية من خلال هذا الرجوع المستمر إلى الأعمال الفنية ليس بغرض استنطاقها واستجوابها وإرغامها على أن تقول ما تكون الذات قد حددته سلفا وإنما بالاقتصار فقط على فعل الإنصات والاستماع لما يمكن أن تشير إليه هذه الأعمال
هذا الكتاب ظهرت مشاعر نقدية، وميل نحو الاحتجاج المهووس على عالم الكبار، ميل مناهض لتسطيح أشكال الحياة الفردية بواسطة المجتمع الصناعي المتغير دائما بشكل موحد، لقد وضع هايدجر بفضل كتاب «الوجود والزمن» مفهوم حقيقة الوجود والوعي بنهائيته، وارتباطه بمفاهيم العنف والموت.
ارتبطت قضية الفن عند هايدغر منذ أن عالجها سنة 1936 بهوية الإنسان من المنظور التأويلي، والواقع أن محاضراته عن أصل العمل الفني كانت تعني حادثة فلسفية مثيرة، ليس ذلك فقط لأن الفن أصبح ضمن البداية الأساسية التأويلية لهوية الإنسان في تاريخيته، بل لأنها فهمت أيضا في هذه المحاضرات كما هو الأمر في عقيدة الشاعرين هولدرلين وشتيفان جورج على أنهما عمل إنشائي لعوالم تاريخية كاملة، وقد أكد هايدغر أن جوهر الفن هو الشعر، وهو يريد بذلك أن يقول أن نسخ ما هو موجود من قبل هو أصل العمل الفني، وإنما التصميم هو الذي ينتج عنه شيء جديد بصفته حقيقة، وتشكل سيطرة اللغة أساس التصميم، ويعتقد هايدغر أن عمل اللغة هو شعر الوجود الأكثر أصالة، ويضيف أن اللغة في معناها الجوهري شعر، والفن في نهاية الأمر حسب هايدغر يعني «إقامة الحقيقة»، وهو «وضع الحقيقة في العمل الفني»، ويعتقد هايدغر أن العمل الفني ينتمي بوصفه عملا إلى ميدان، ينفتح عن طريقه هو ذاته، فوجود العمل الفني لا يوجد إلا في مثل هذا الانفتاح والحقيقة حسب هايدغر تعمل عملها في العمل الفني.